عندما ينتقم المهزوم من المظلوم !
أ. عيسى جرادي/ مفارقة عجيبة لكنها تقع أحيانا .. والتاريخ سجل مفتوح لكتابة بعض العبارات غير المفهومة و غير المتوقعة .. أن يستل المهزوم سيفه في وجه طرف ثالث بريء.. لم يكن سببا في هزائمه .. فيصمم على الفتك به و التنكيل بآدميته .. لتأتي النتيجة جريمة موصوفة ضد الشرف الإنساني .. ينحط بها المجرم …

أ. عيسى جرادي/
مفارقة عجيبة لكنها تقع أحيانا .. والتاريخ سجل مفتوح لكتابة بعض العبارات غير المفهومة و غير المتوقعة .. أن يستل المهزوم سيفه في وجه طرف ثالث بريء.. لم يكن سببا في هزائمه .. فيصمم على الفتك به و التنكيل بآدميته .. لتأتي النتيجة جريمة موصوفة ضد الشرف الإنساني .. ينحط بها المجرم إلى الدرك الأسفل من الوحشية و العار .
حدث هذا في 8 ماي 1945 .. حين انقضت أسراب طائرات حربية فرنسية و أجنبية .. تدك عشرات القرى و « المداشر» .. تصب عليها حممها بمعدل 300 غارة يوميا .. و تتولى سفن حربية قصف المناطق القريبة من الساحل .. و تنجز الشرطة الاستعمارية وظيفتها القذرة بإطلاق الرصاص على المتظاهرين في الشوارع .
كانت النتيجة إبادة ما لا يقل عن خمسة و أربعين ألف ضحية .. منهم من تُرك في العراء نهبا للذئاب و الجوارح .. و منهم من أذيب في أفران الجير طمسا للجريمة .. و منهم من حُمل أكداسا في شاحنات ليرموا في الأودية .. أو يهال عليهم التراب في مقابر جماعية !
ثمانون عاما و لا تزال الجراح تنزف .. و الذاكرة تنتفض .. من أجل ألا ينسى المقتول من قتله .. و ألا يتخلص القاتل من عاره الذي ينوء به إلى اليوم .
المجرم الذي انهارت تحصيناته أمام « البانزر» الألمانية .. و فتحت عاصمته « باريس « ذراعيها لاحتضان الفوهرر .. و تتحول فرنسا الأبية إلى بلد محتل ذليل يوقع صك الاستسلام .. هذا المجرم الذي حررته قوات الحلفاء .. لم يجد سبيلا للانتقام من قاتله .. سوى أن يقتل من تظاهر من أجل حقه في الحياة .. من رفع شعار «الديمقراطية للجميع» .. لا شعار «الموت للعرب» .. أراد أن يكون حرا كما الفرنسي الذي تحرر في 1945 .. يستعيد إنسانيته التي أهدرها المستعمر .. و لم يُبق له منها شيئا!
في هذه اللحظة تحديدا .. انهارت كل الموازين .. لم يعد ثمة ما يمكن الاحتكام إليه من عقل أو ضمير أو شرف .. كل ما بقي ابتداء من هذه اللحظة .. أن ينتفض المقتول بكل ما يحوز من عنف .. و من ألم داخلي مكبوت .. في وجه الوحش الجاثم على صدره منذ 1830 .
كان الدرس واضحا بقدر قسوته .. و لم تكن مفرداته عصية على الفهم .. الفرنسي لا يستوعب السياسة باعتبارها طريقة في حل أو احتواء المشكلات .. و لا يؤمن بالحوار مطلقا .. ولا يحترم من يتعاطى معه بالمفاوضات .. ولا يستجيب للين .. الفرنسي الذي أباد الملايين لا يستوعب سوى لغة واحدة .. أن تدفعه إلى الحائط فيستسلم .. أو تطلق النار عليه و تنهي القضية .
من الآن فصاعدا أدرك الجزائري المقهور .. أن الطريق إلى الحق لا يتسنى بترك نصفه أو ثلثه .. إنما باستخلاصه كله .. و هذا ما وقع بعد تسع سنوات من هذا التاريخ تحديدا .