عن تاريخ الوحشية والحقد والغدر الفرنسي في الجزائر !

أ. عبد الحميد عبدوس/ أحيت الجزائر يوم الخميس الماضي (8 ماي2025 ) اليوم الوطني للذاكرة الموافق للذكرى الثمانين لمجازر الثامن ماي 1945. لقد كانت أغلب فترات تاريخ العلاقات الفرنسية مع الجزائر، سلسلة متصلة من الوحشية والغدر والأكاذيب. فقبل أن يجف حبر معاهدة الماريشال دوبورمون مع داي الجزائر التي تم بموجبها تسليم مفاتيح الجزائر إلى قائد …

مايو 12, 2025 - 13:42
 0
عن تاريخ  الوحشية والحقد والغدر  الفرنسي في الجزائر !

أ. عبد الحميد عبدوس/

أحيت الجزائر يوم الخميس الماضي (8 ماي2025 ) اليوم الوطني للذاكرة الموافق للذكرى الثمانين لمجازر الثامن ماي 1945. لقد كانت أغلب فترات تاريخ العلاقات الفرنسية مع الجزائر، سلسلة متصلة من الوحشية والغدر والأكاذيب. فقبل أن يجف حبر معاهدة الماريشال دوبورمون مع داي الجزائر التي تم بموجبها تسليم مفاتيح الجزائر إلى قائد الجيوش الفرنسية والذي تعهد فيها بشرفه أن: “تبقى ممارسة الديانة المحمدية حرة كما أنه لن يقع أي اعتداء على حرية السكان من جميع الطبقات ولا على دينهم وأملاكهم وتجارتهم وصناعتهم ونسائهم”، كان جنود الغزو الفرنسي تحت قيادة الجنرال دو روفيغو يبيعون في حي باب عزون أساور النساء المعلقة في معاصمهن المقطوعة، وكان جنود الغزو الفرنسي في سنة 1832 يحولون مسجد كتشاوة بقلب العاصمة الجزائرية إلى كنيسة مسيحية بعد إخراج جميع المصاحف التي كانت بداخله لإحراقها في الساحة المجاورة له، وقتل ما لا يقل عن أربعة آلاف مصل اعتصموا بداخله، وكان الجنرال الدموي المجرم يعتبر هذا التصرف الهمجي المخزي بمثابة “انتصار للصليب على الهلال”.
قبل يومين من إحياء ذكرى مجازر الثامن ماي كان البرلمان الفرنسي مسرحا لمهزلة سياسية جديدة حاول من خلالها نواب حزب “النهضة” الموالي لماكرون، والجمهوريون الذين يمثلون اليمين التلقيدي، ونواب التجمع الوطني الممثليو لتيار اليمين المتطرف بالتدخل في شأن قضائي جزائري بالمطالبة بإطلاق سراح الكاتب العميل الخائن بوعلام صنصال، لكن الجزائر لم تعد تلقي بالا لضجيج جزء كبير من أعضاء مجلس النواب الفرنسي، منذ أن تحول هذا المجلس في سنة 2022 إلى ساحة لتمجيد الإرهاب من خلال إشادة عميد نواب حزب مارين لوبان المدعوجوزي غونزاليس بأفعال الأقدام السوداء وبمنظمة (oas) الإرهابية، وسبق لهذا البرلمان أن غرق في العار عندما أصدر في سنة 2005 قانون تمجيد الاستعمار.لم تكتف الجزائر بالتعالي على مشاغبات نواب اليمين واليمين المتطرف الفرنسي، بل إنها أصدرت مذكرة قضائية لتوقيف رفيق صنصال في الخيانة والعمالة الكاتب اللص المرتزق، كمال داوود، الهارب إلى فرنسا.
على مدى أكثر من قرن من الزمن لم يتغير سلوك فرنسا في ممارسة الغدر والحقد على الجزائر. ففي الحرب العالمية الثانية تذكر إحصائيات رسمية فرنسية أن أكثر من 150 ألف جزائري شارك ضمن الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال شارل ديغول، توفي منهم 55 ألف ضحية في الفترة الممتدة ما بين جوان 1940 وماي 1945. وإذا كانت ألمانيا النازية قد قتلت كل هذا العدد الكبير من الجزائريين في ظرف 5 سنوات، فإن فرنسا المحتلة قتلت ما يقارب هذا العد د من الجزائريين في ظرف يوم واحد. حيث أن 45 ألف من المدنيين الجزائريين من الذين خرجوا ليتظاهروا سلميا بيوم النصر على النازية، وليطالبوا فرنسا المحتلة بتمكينهم من تقرير مصيرهم بعد التضحيات الجسيمة التي قدموها لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي، كان مصيرهم الإبادة الجماعية من طرف قوات سلطات الاحتلال الفرنسي التي حولت هذا اليوم (8 ماي 1945) إلى إحدى أكبر المجازر في التاريخ الإنساني. فقد شاركت فيه القوات البرية والبحرية والجوية الفرنسية، و ميليشيات المعمرين، والطابور المغربي، والجنود السنيغاليون المجندون في صفوف الجيش الفرنسي. عندما بدأت أنباء الجريمة النكراء التي فاقت في وحشيتها جرائم القمع النازي تنتشر بفعل ما تناقلته بعض الصحف الأوروبية خصوصا الإسبانية والأمريكية وتسامع المجرمون الفرنسيون بقرب وصول لجنة تحقيق إلى الجزائر، حاولوا طمس معالم الجريمة، بإلقاء جثت الشهداء في شعاب خراطة وصب الاسمنت المسلح عليها لإخفائها عن الأنظار،كما قام المجرمون المحتلون بحرق جثت ضحايا المظاهرات السلمية في أفران الجير في منطقة هيليوبوليس بقالمة، وذهبوا إلى حد الادعاء أن من قاموا بالمظاهرات هم متطرفون متعاطفون مع النازية. بعد هذه الإبادة الجماعية للمتظاهرين السلميين من المدنيين، أبرق الوالي العام الفرنسي في الجزائر، إيف شاتينيو، لقائده الجنرال ديغول يبشره بأن: ”العرب خضعوا بعد إبادتهم”. ومنذ الأيام الأولى للمأساة الجزائرية أصرت سلطات الاحتلال الفرنسي على إغراق الحقيقة في بحر من الأكاذيب وضجيج حرب المصطلحات والأرقام، وظلت السلطات الفرنسية الاستعمارية العسكرية والمدنية والمؤرخون الفرنسيون المشايعون لها يطلقون مصطلحات “التمرد” أو “الشغب” أو “أحداث 8 ماي”.
المفارقة، أن هذه الذكرى التي تحييها الجزائر كذكرى للحزن والترحم على أرواح الشهداء، ولحظة للتأمل والتذكر للأعمال الوحشية والغدر والقمع الجماعي الفرنسي، والتي تعد في القانون الدولي، بمثابة إبادة جماعية تدخل في إطار الجرائم ضد الإنسان،تحتفل بها فرنسا التي حررها الحلفاء، الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وروسيا، إلى جانب المقاومين الفرنسيين والمجندين الجزائريين،كذكرى للنصر والفخر، وتسميه “عيد النصر” وتقيم فيه الاحتفالات الباذخة والصاخبة. بمناسبة الاحتفال الفرنسي بيوم الثامن ماي 1945نشرت صفحة القوات البرية الفرنسية على موقعها، ما يلي: “إن إحياء الذكرى يكتسي أهمية خاصة بالنسبة للجميع. إنها فرصة لتكريم الجنود الذين حاربوا من أجل حريتنا، وكذلك تذكر تضحيات المدنيين الذين تحملوا فضائع الحرب، إنها أيضا فرصة لتأكيد التزامنا بقيم التسامح والتضامن والسلام.”. هل كانت مجازر فرنسا الاستعمارية في الجزائر تجسيدا لالتزامها: “بقيم التسامح والتضامن والسلام”؟
في 2021 دعا المؤرخ الفرنسي التقدمي أوليفيي لوكور غراندميزون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الاعتراف بشكل واضح وصريح بجرائم 8 ماي باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، بقوله: “يجب أن يتم الاعتراف بشكل واضح وصريح، بأن الجرائم التي ارتكبت كانت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما تنص على ذلك المادة 212-1 من قانون العقوبات الفرنسي»، وأكد أن: «أبناء الضحايا ما زالوا ينتظرون اعتراف فرنسا بهذه الجرائم».
لكن فرنسا الرسمية ما زالت غير قادرة على أن تتحمل مجرد سماع الحقائق التاريخية عن فظائعها في حربها ضد الجزائر مثل ما جاء في تصريح الصحافي والمؤرخ، جان ميشال أباتي، الذي قال: ” إن فرنسا ارتكبت إبان استعمارها للجزائر المئات من المجازر من نوع «Oradour-sur-Glane» (أورادور سور غلان) وهي قرية فرنسية تعرض سكانها إلى الإبادة على يد المحلتين النازيين عام 1944. وتعرض الصحافي إلى هجمة شرسة من كثير من الأطراف الفرنسية. وقال المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا إن، جان ميشال أباتي: “أعلن حقيقة تاريخية، ما جعله عرضة لموجة من الإهانات والتهديدات”. وتم تعليق عمله كصحافي في إذاعة «RTL» ( أر. تي. أل). وبعد أيام قليلة من تصريح الصحافي والمؤرخ ،جان ميشال أباتي لم تسمح القناة الفرنسية الرسمية «France 5»(القناة الفرنسية الخامسة ) بعرض فيلم وثائقي تحت عنوان ” الجزائر، أقسام الأسلحة الخاصة” يكشف عن استخدام فرنسا للأسلحة الكيميائية في الجزائر، والذي يعتمد على الأبحاث التي أجراها المؤرخ العسكري الفرنسي كريستوف لافاي، والأرشيفات التي جمعها. ومن خلال توسيع تحقيقاتها بشهادات قدامى المحاربين الفرنسيين والجزائريين وخبراء في مجال الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية، تكشف المخرجة كلير بيلي سياق هذه الحرب الكيميائية وحجمها، وكيف أمر المسؤولون في ذلك الوقت باختبار الغاز السام ثم استخدامه على نطاق واسع للقضاء على المجاهدين المختبئين في الكهوف.
بخصوص الجرائم الكبرى التي ارتكبها الجيش الاستعماري الفرنسي في الجزائر، قال بنيامين ستورا: “إن التاريخ الاستعماري الفرنسي حافل بالمجازر”، مشيرًا إلى “حرق الكهوف في منطقة الظهرة عام 1845، حيث لقي مئات الأشخاص حتفهم اختناقًا، إلى جانب قصف قسنطينة عام 1837 الذي أوقع عددًا كبيرًا من الضحايا المدنيين، فضلًا عن إبادة سكان الأغواط عام 1852، وقمع انتفاضة 1871 الذي أسفر عن مصادرة 500 ألف هكتار من الأراضي ونفي العديد من الجزائريين”.
قبل أربعة أيام من إحياء الذكرى الثمانين لمجازر الثامن ماي 1945، نقل موقع «الجزيرة .نت» القطري، يوم الأحد 4 ماي الجاري، عن صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية قولها “إن فرنسا علقت الاعتراف بمجازر8 ماي 19454 بسبب الأزمة الدبلوماسية بين البلدين”. وقال مصدر مطلع للصحيفة بأن : ” الذكرى الـ80 للمجازر تمثل لحظة مناسبة لمثل هذا الاعتراف، ولكن الحكومة تخشى أن أي بادرة امتنان جديدة للجزائر ستفهم على أنها اعتراف بالضعف تجاه النظام الجزائري”. هكذا يتضح أن فرنسا التي ما انفكت تلقي التهم على الجزائر بتسييس ملف الذاكرة، هي التي تمارس عمليا إخضاع قضايا التاريخ لمزاجها السياسي، وحساباتها الشعبوية.