«فطرة الله التي فطر الناس عليها»

أبو المنذر شنه/ لا يختلف اثنان من ذوي الألباب النيّرة والفِطَرِ السليمة أنّ ما تشهده البشرية اليوم من تحوّلات متسارعة وهائلة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الفطرة الإنسانية التي فطر الله النّاس عليها يُنذِر بخطر داهم، فالإنسان اليوم مهدّد من حيث هو «إنسان»، فقد استجمعت آلة الدمار العولمي اليوم قوّتها مركّزة على هدم القيم الإنسانية …

أغسطس 26, 2025 - 13:31
 0
«فطرة الله التي فطر الناس عليها»

أبو المنذر شنه/

لا يختلف اثنان من ذوي الألباب النيّرة والفِطَرِ السليمة أنّ ما تشهده البشرية اليوم من تحوّلات متسارعة وهائلة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الفطرة الإنسانية التي فطر الله النّاس عليها يُنذِر بخطر داهم، فالإنسان اليوم مهدّد من حيث هو «إنسان»، فقد استجمعت آلة الدمار العولمي اليوم قوّتها مركّزة على هدم القيم الإنسانية وتنكيس الفطرة البشرية بابتداع سياقات ومساقات تنخر الفِطَر وتهزّ أركانها فتُحِيل الإنسان آلة بهميّة مُهيّئة للابتلاع العولمي كأنه مسخ لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا.
ولعلّ أبرز مظاهِر ذلك ما نشاهده من انحلال خلقي وانهيار قيميّ وتفكّك في العلاقات الإنسانية في المجتمعات الغربية خصوصا، الذي ما يلبث زاحفا نحونا -الأمة الإسلامية – كما أنّ المتتبع للشأن التربوي والاجتماعي يشهد تشوّهات عميقة في مستوى الوعي الجمعي عند الشباب خصوصًا، ويتمّ ذلك من خلال حقن معانٍ ومفاهيمَ مستلهمة من مصطلحات ذات أبعاد إيديولوجية خطيرة، ليتم ذلك في اللاوعي الجمعي للأفراد، ويشتغل على ذلك في إطار عملية تكتسي طابع العلمية والأكاديمية فتُطرح الفرضيات باعتبارها نظريات علميّة وهي في الحقيقة لا أساس لها من الصحة، ومن ذلك مصطلح «النوع الاجتماعي» أو «الجندر»
وقد كان الدافع الرئيسي لطرقي هذا الموضوع ما اطّلعت عليه مطلع شهر مارس من عام 2023 تزامنا مع ما يسمى عيد المرأة – وأيامنا كلها أعياد لنسائنا – وهو الأيام الدراسية بعنوان: «النوع الاجتماعي والفضاء العام في البلاد المغاربية، آفاق الحالة الجزائرية» المنظم من طرف مركز بحث جزائري بالتعاون مع جامعة جزائرية وجامعة فرنسية وهي حسب ما اطلعت جزء من مشروع تعاون بحثي بعنوان: «المدينة الجزائرية بصيغة المؤنث، بين الممنوعات وفضاءات الحرية، حالة مدينة جزائرية».
سأكتفي بهذا دون تفصيل أو تعقيب على برنامج الأيام الدراسية ولا على المواضيع المطروحة التي أطرها أساتذة من جامعات جزائرية وأساتذة من جامعات فرنسية لأبيّن ما استوقفني وهو مصطلح «النوع الاجتماعي أو الجندر»، وقد سبرت أغوار هذا المصطلح بالبحث والتدقيق لأقف على نشأته وماهيته والمغزى منه، كما أشير أنّه ممّا شدّ انتباهي للاهتمام بالموضوع البرمجة المتزامنة لنفس الموضوع في كلّ من تونس والمغرب وبمشاركة أساتذة من جامعات فرنسية ولعلّ هذا يندرج ضمن عمل استراتيجي لتحقيق غاية ما!
ولا أسِرّ أن الأمر قد هالني حقيقة لما تتبعت مسار تطور هذه المفاهيم وعزمت على كتابة شيء في الموضوع، غير أن لقاء جمعني ببعض الأفاضل ناقشنا فيه الأمر جعلني أتراجع باعتبار أن الأمر غير شائع ببلدنا إلا في الأوساط الأكاديمية، وأن الكتابة فيه قد يعدّ من التشهير له، فأحجت عن ذلك، غير أن ما حدث أمس – يمكن للمتتبع إدراكه – جعلني أستشعر خطورة ما يتهدّد الأسرة الجزائرية والفرد الجزائري المسلم من نظم وقوانين واتفاقيات دولية ملزِمة، فعزمت مرة على كتابة عدة مقالات متتالية للإحاطة بالموضوع، تنبيها لنفسي وللمشتغلين بميدان التربية والإصلاح ابتداء ولغيرهم..

كيف بدأ الأمر؟
بدأت القضية من الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية (النسوية) – سيتم شرح المصطلح لاحقا- سيمون دي بوفوار التي قالت: «الأنوثة ليست جوهرا ولا طبيعة إنّها حالة خلقتها الحضارات انطلاقًا من بعض المعطيات الفيزيولوجية» وهي صاحبة الشعار المعروف: «لا نولد امرأة ولكن نصير كذلك»، وردت هذه النقولات في كتابها «الجنس الآخر 1949» والواضح منها أنّها للاعتراض على الطبيعة البشرية التي خلق الله البشر عليها فجعل الذكر والأنثى وميّز كليهما بخصائص، قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ} الآية 45 من سورة النجم، وتعتبر سيمون دي بوفوار مؤسّسة فلسفة ما يسمّى بـــ»النوع الاجتماعي» التي تقوم على أن المجتمع وثقافته هو الذي يصنع الفرق بين الرجل والمرأة وأنه هو الذي قسم الأدوار بينهما، وجعل الأنثى تنظر لنفسها على أنها أنثى والذكر على أنه ذكر، – معاذ الله من هذا الفهم-.

ظهور مصطلح «الجندر»:
ويصطلح على النّوع الاجتماعي أيضا بـ «الجندر»، فيقال نظرية النوع الاجتماعي أو النظرية الجندر، الذي ظهر أول مرة –مصطلح الجندر- في مؤتمر القاهرة للسكان سنة 1994 تحت رعاية الأمم المتحدة، حيث ذُكِر 51 مرة دون تحديد معناه، ثم ذُكِر في مؤتمر بكين سنة 1995 تحت رعاية الأمم المتحدة أيضا والئي عُنِيَ بالمرأة، وورد في قرارات المؤتمر 254 مرة دون ذكر تعريف له أيضا.
وتقول هذه الفلسفة بأنّ الذكورة والأنوثة هي ما يشعر به الذكر والأنثى وما يريده كلّ منهما لنفسه، ولو كان ذلك مخالفا للواقع البيولوجي، أي أنّ هذه الفلسفة تسعى في جميع أفكارها إلى التماثل الكامل وليس المساواة فقط بين الذكر والأنثى، ومعنى التماثل هنا إلغاء جميع الفروق الطبيعية والتشريحية والبيولوجية بين الذكر والأنثى. ونلاحظ في كتاب جدلية الجنس المنشور سنة 1970 للمفكرة النسوية الكندية «شولاميت فايرستون» تقول: «إنّ فكرة الطبيعة لا تعبر عن قيمة إنسانية ذات بال لأن الإنسانية بدأت تتخطى الطبيعة»
إنّ فكرة النوع الاجتماعي تتضمن مخالفات للشريعة الإسلامية ومصادمة للفطرة الإنسانية، وهي قائمة على أبحاث ودراسات لا تخلو من تدليس علمي وتزوير وخداع.
وبهذا يتبين لنا أن أخصر تعريف للنوع الاجتماعي أو الجندر هو إلغاء النوع الإنساني، أي إلغاء الجنس واستبداله بالنوع الاجتماعي.

جذور مصطلح النوع الاجتماعي:
يعتبر الطبيب جون موني 1955 الأب الروحي للنوع الاجتماعي فهو من اخترع مبدأ الجندر (كان يعمل على الأطفال الخنثويين ويعطيهم جنسا عشوائيا: ثقافيا ثم جراحيا) ووضع تعريفات للنوع الاجتماعي ومصطلحات: «الهويات الجنسية» و»الأدوار الاجتماعية»، فهو يعتقد أنه لا يوجد فرق بين الذكر والأنثى لا في الميول ولا في الرغبات ولا في الأدوار والوظائف، وأن المجتمع هو الذي ينشِئ تلك الفروقات بينهما وليس طبيعة التكوين أو الخلقة، وكان يعتقد أنه يمكن تربية الولد ليكون كفتاة يقوم بأدوارها ووظائفها والعكس كذلك، تلى ذلك جهود عالمة الاجتماع آن أوكلي 1972 التي فرقت بين الجنس البيولوجي والنوع الثقافي، وسعت نحو تحقيق إزالة الفروق الوظيفية بين الرجل والمرأة، فهي تقول: «إنَّ الأمومة خُرافة، ولا يوجد هناك غريزة للأمومة، وإنما ثقافة المجتمع هي التي تصنع هذه الغريزة؛ ولهذا نجد أنَّ الأمومة تعتبر وظيفةً اجتماعية».
جدير بالذكر أن نؤكد أن من الآثار والنتائج العملية لإلغاء الفروق بين الذكر والأنثى ما يتعلق بالأسرة: كتاب الأسرة وتحديات المستقبل الصادر عن هيئة الأمم المتحدة، ومما ورد فيه أن الأسرة يمكن تصنيفها إلى 12 إثناعشر شكلا ونمطا من صنوف الأسرة وهي معتمدة لدى هيئة الأمم المتحدة، فمما ورد نصا في ذلك الآتي:
«الأسرة تأخذ أشكالا متعددة ولا يشترط أن تتكون من رجل وامرأة دائما علما أن الأسرة هي المحضن الطبيعي للطفل رجل ورجل، أم وصديقها مع أطفالها أو أطفالهما، أم وصديقتها مع أطفالها أو أطفالهما، أب وصديقه مع أطفاله أو أطفالهما، أم وأب وصديقه مع أطفالها أو أطفالهما». قد يبدو لمن يطّلع على الموضوع لأول مرة مقزّزا جدا وقبيحا ولا تقبله الفطر السليمة –وهو كذلك – غير أنّ هذا يتحول تدريجيا لقوانين تفرض وتجبر عليها الدول جبرا وفرضا من دول الغرب وهيئة الأمم المتحدة.
إنّ الله –عزّ وجلّ – لم يخلق الذكر ليكون نسخة طبق الأصل عن الأنثى والعكس صحيح بل جعل بينهما فروقات ليكون كلاً منهما محتاجا للآخر مكمّلا له وهي ليست اختلافات تضادّ بل اختلافات تنوع تؤدي للتكامل بين الذكر والأنثى، وصحيح أن معظم الأدوار الاجتماعية هي أدوار عامة يستطيع أن يقوم بها الذكور والإناث على حد سواء، وصحيح أن الله عزوجل جعل الذكور والإناث متساويين متشابهين في معظم الأمور وفي الحقوق والواجبات، إلا أنه سبحانه وتعالى ميّز الإناث بمجموعة من القدرات والخصائص التي يفتقد لها الرجال والعكس كذلك، وبناء على هذا الاختلاف في الخصائص والمميّزات فإن بعض الوظائف تناسب المرأة دون الرجل أو الرجل دون المرأة، هذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، قال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (*) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[الروم: 29 – 30].
إني أستصرخ كلّ غيور على الدين وكلّ غيور على الأخلاق أن يقوم بواجبه تجاه تلك الجهات التي تسرّب تلك الأفكار المنكَرة إلى عقول أبنائنا عبر جرعات صغيرة متتالية في المناهج الدراسية والبرامج الإعلامية، ولعلّ المساعِيَ الآن صارت حثيثة لتكون من خلال قوانين تسنّ، فالله الله يا أولياء الأمور ويا خطباء المساجد، يا معلمين ومعلمات، يا علماء الشريعة ودعاة الإسلام بيّنوا للناس قبائح نظرية النوع الاجتماعي وفضائحها، ربّوا أبناءكم على الفطرة السليمة وعلموهم كيف ينقدون هذه النظرية ويكشفون زيفها داخل صفوفهم، طالبوا المسؤولين عبر القنوات المشروعة لحذف كل ما له علاقة بهاته النظرية الهدّامة.
فإن خفتم عيلة فسيغنيكم الله من فظله، ولوأد أبنائنا أشد عندنا من وأد أخلاقهم ودينهم