محدِّدات في تفكيرنا الإسلامي
أ. عزالدين مصطفى جلولي/ منطلقات لا نزال نسلم بحد العلم كما عرفه الغربيون بعد «نهضتهم»، علمنا دين وديننا علم، وإن أهم وثيقة علمية بين أيدينا هي الوحي الرباني، وإلا فقد وقعنا في مطب المفاهيم الغربية من دون أن نشعر. وسيعرف آخر الزمان تصحيحا للحياة البشرية كما أخبر الصادق المصدوق، حياة تتعايش فيها الطوائف كلها في …

أ. عزالدين مصطفى جلولي/
منطلقات
لا نزال نسلم بحد العلم كما عرفه الغربيون بعد «نهضتهم»، علمنا دين وديننا علم، وإن أهم وثيقة علمية بين أيدينا هي الوحي الرباني، وإلا فقد وقعنا في مطب المفاهيم الغربية من دون أن نشعر. وسيعرف آخر الزمان تصحيحا للحياة البشرية كما أخبر الصادق المصدوق، حياة تتعايش فيها الطوائف كلها في ظلال أمة واحدة وارفة العدل والإيمان. أما ما خلا ذلك من قرون فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ولنا أن نقف من تاريخنا مواقف واعية، تتعدى الدراسة والتمحيص.
صحيح أن تناول قضايا إنسانية من جانب واحد لا يساعد على فهم الظواهر من دون بعد اجتماعي، وصحيح أن تناولها من المنظورين معا بعيدا عن سلطان الإيمان قصور كذلك. وليس صحيحا أن الفشل في التحرر اجتماعيا، إن لم نترك العلاقات مباحة بلا ضوابط، سيؤدي إلى الفشل في المطالبة بالحرية سياسيا؛ السياسة غير الاجتماع هاهنا، والحرية بينهما مختلفة تماما ونسبية.
هل التربية الصالحة لها أمراض؟ وما هي الأثمان التي سندفعها من حياتنا لما نجرب هذه الفلسفة أو تلك؟ وما العمل إذا ما وجدنا أنها غير مجدية؟ إن عمر الإنسان محدود وإن طال، ولا يسع ابن آدم إلا أن يقضيه في طريق آمن. ينقطع عمل المرء بعد وفاته إلا من ثلاث، إحداها علم ينتفع به. فإن كان علما نافعا فمن مصلحة الكاتب وهو في آخرته أن يستثمر فيما كتب خير استثمار حين ينشر ما خطت يده أو يوصي بنشره، ولقد أتاحت المنصات الالكترونية إمكانية هذا وبسطته؛ وفي ذلكم فليتنافس المتنافسون.
ولا تغرن المسلم الأسماء اللامعة والتصنيفات العالمية للجامعات عن الحقيقة، فهل تمتلك جامعة هارفرد «الحقيقة» لتدافع عنها؟ وهل يقف علماؤها على حدود الحق والباطل في ظاهرة معاداة السامية؟ وماذا عن موقفهم من الإسلاموفوبيا؟ وما أخلاقية العلاقة بين التمويل والتعليم في هذا الصرح الجامعي؟ إن قضية المعرفة عند المسلمين وكيف أينعت عند أعدائها وفشلت في القرون الأخيرة عندنا، مدخل لابد منه للحديث الجاد عن أزمة التعليم في بلداننا المسلمة.
امتلاك الشعوب القدرة على الإعلام، ليس كافيا وحده لإصلاح الأعطاب التي تصيب السلطة، لا بد أن تكون للحرية ضوابط أخلاقية كالمصداقية والنزاهة والتجرد، وإلا تفلتت السلطة الرابعة من عقالها وأصبحت تحمل سيفا ذا حدين.
معالم
الخطأ أخو الإنسان، خاصة عندما يجرب المرء الحلول للمشكلات التي تعترض سبيله، وما أكثرها؛ لذلك فالمحاولة والتجريب والخطأ في خضم التفكير العلمي لا تعد حماقة، الحماقة هي أن يقفو الإنسان ما ليس له به علم لمجرد أنه يريد أن يمضي إلى غايته بأي ثمن، ثمة الحماقة الحقيقية.
الدين لم يكن متمايزاً أساساً عن بقية أنظمة المجتمع؟ فهل وهبت تلك الأنظمة- كالطبقة والمهنة والملّة والتي كانت تؤمّن عرفاً أخلاقياً حتى ظهر الدين عليها كما يزعم البعض- ما يلزم للناس كي يعيشوا حياة هنية؟ وما الذي نجح في ضبط الفوضى التي يراها بعض الناس اليوم في العراق وسورية عبر القرون الماضية؟ ومن أظهر الدين كله على تلكم الأنظمة في بلاد المسلمين؟ أرى أن الطرح الفكري يقود إلى معالجة أسباب الفشل والنجاح بموضوعية لا ادعاء فيها ولا مبالغة.
الموروث الاجتماعي والثقافي لا يزال بجرة قلم، إنه من مقتضيات الطبع الاجتماعي للإنسان. ثم إن تحييد الصفة الدينية عن الدولة وإلباسها المدنية للوصول إلى الديمقراطية الشرعية- اتكاء على محمد عبده ومحمد مهدي شمس الدين- مغالطة فاضحة، لأنهما لم يقولا بهذه التخريجة! ومعنى مدنية الدولة عندهم ليست علمانيتها، بل إن الإسلام كله مدني الطابع لا كهنوت فيه. مع التنبيه إلى أن التحول من الدولة الأمة إلى الدولة القطرية القومية الطابع جلب علينا الويلات، بخلاف الخلافة التي كانت ولا تزال أفضل ما دعت إليه الرسالة النبوية.
توجد هنالك وصفة علاج فعالة تصلح لهذا العالم لو أنه يبحث عنها بحرية ومثابرة وعلمية. قرون الحقوق والحريات صنعت أجيالا تتظاهر من أجلنا ولم تغير من مواقف حكوماتها شيئا، لأنها حكومات انتخبتها بحرية أيضا أجيال هي نتاج القرون نفسها ولكنها تمثل الأغلبية. ميزان المصلحة والمفسدة وحده من يحدد إذا ما كانت مخرجات الحرية مقبولة أو مردودة. ولكن من يمتلك هذا الميزان؟
يدعي بعض الناس بأن الفردانية نزعة تطورية، وإذا بها تميتنا قبل أن نرتص ونتشكل! إنهم ينفخون في قربة مثقوبة. ومعنى أن تكون فردانيا بالمفهوم الليبيرالي فأنت في إحدى كفتي ميزان، فعبثا تقيم قسطاسا غير مستقيم مهما حاولت، خاصة في مجتمع محافظ كالكويت، خدع نفسه بديموقراطية هجينة لم تصلح من شأنه إلا قليلا.
هذه هي مخرجات الممارسة السياسية عندما تكون «لعبة ديموقراطية». علما بأن الإمامة (أي السلطة بالمصطلح القانوني) مباحثها فقهية بحتة، لكنها صنفت في آخر أبواب العقائد لعظم شأنها. وقد عد الفيلسوف أبو حامد النشاط السياسي أهم فعل للإنسان على الأرض، لأن به صلاح حال الفرد كله أو فساده.
تطبيقات
إلى أي مدى يمثل «السنية» ببلاد الرفدين من كان يمارس السياسة باسمها هكذا سواء في الحكم أم في الانتخابات؟ وكذلك بالنسبة إلى الشيعية؟ ليس هذا هو الإسلام المحمدي الذي يتخذه أمثال هؤلاء مطية لأغراضهم الدنيوية.
أسأل إن كان أهلنا في الجوار الفلسطيني لا يزالون يتمثلون شيئا من أخلاق الفروسية عند أسلافهم؟ ولم نسمع لحكومة إسلام أباد حسا في الذود عن أهلنا في غزة، فهل بدأت الأقدار في عقابها على ذلك؟
كيف استطاع بعض الكتاب المذبذبين أن يجمعوا بين التصوف والإحساس بسمو أرواحهم في السماء وهم يستمعون إلى الترانيم الدينية وبين إعجابهم بأفلام ممثلة فاجرة؟ لست أدري. اليساريون واليمينيون يفتقدون إلى الوسطية التي لا توجد إلا في الإسلام، سيرة العالمين إبراهيم السامرائي ومحمد عمارة خير مضرب على ذلك.
من ينكر على قومه الهوس بالجن والسحر والعين لا يصدق قصة الأطباق الطائرة وأنها من الأسرار القومية للدول وإلا وقع في ازدواجية المعايير. الخرافة الحقة في وجود مدد للولايات المتحدة من غير سلطان العلم. أما ما نحن «مهووسون» به، كما يذهب إلى ذلك بعض الناس، فإن المبالغة فيه حاليا لم تمنع أساطين العلم في الحضارة الإسلامية من الاعتقاد به، وقد بلغوا من العلم والعرفان ما لم يبلغه أحد كان قبلهم ولا أحد جاء بعدهم.
وحتى لا تفقد «الكرامة الربانية» الحكمة منها، أشير إلى أهمية التعرف إلى السلوك التعبدي الذي تحلى به أصحابها حتى نالوا هذا الفضل العظيم. هذا لكي تتحول حكايات الأولياء إلى قصص تربوي يهتدي بها الإنسان، لا إلى روايات أدبية الغرض منها التسلية والخيال والأساطير.
التكييف الفقهي لكرة القدم التي قتلت غوغاء في الملاعب، هل هي رياضة، أم لعبة، أم لهو؟ ووضع النتيجة بعهدة حكماء يقررون عن شعوبهم كيفية التعامل مع هذه الظاهرة العالمية_ يعد بداية موفقة لفهم مع ما يترتب عليها من مفاسد وما أكثرها، ومن مصالح وما أقلها، علما بأن الأغلب الأعم ممن يشرف على هذه الكرة لا يقارب هذا الأمر من هذا المنظور مطلقا.
الاتحاد العالمي هيئة محترمة، لكنها مقربة من قطر وتركيا كثيرا، ثم هل لدى الاتحاد كلمة مسموعة عند هؤلاء أم أنه هيئة استشارية عند الحاجة؟ سنرى مواقفهما من فتاوى الاتحاد وموقف الاتحاد من التطبيع غير المعلن لقطر والتطبيع الكامل لتركيا مع الصهاينة. كما أهيب بمن وقع على فتوى الجهاد في فلسطين أن يكون أول الملبين، فليلبس لأمته ويلتحق بالثغور مرابطا، وليطو عنه الدفاتر والأسفار كما صنع سلطان العلماء وفعل شيخ الإسلام رحمة الله تعالى عليهما.