جَـمعية الـعلماء الـمسلمين الـجزائريين.. دارُ الأرقم بن أبي الأرقم
أ/ تسعديت بلحوت/ يقول الباري تعالى في مُحكم تنزيله: {ولو يؤاخذ الله النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمّى فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً} [45/فاطر]. بمناسبة الذكرى الرابعة والتسعين لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين العـتيدة، يقف الشّعب الجزائري اليوم وقفة إجلال وإكبار أمام هذا الحدث …

أ/ تسعديت بلحوت/
يقول الباري تعالى في مُحكم تنزيله: {ولو يؤاخذ الله النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمّى فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً} [45/فاطر].
بمناسبة الذكرى الرابعة والتسعين لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين العـتيدة، يقف الشّعب الجزائري اليوم وقفة إجلال وإكبار أمام هذا الحدث التّاريخي العظيم ليستظهر أهم الأعمال الجليلة والانجازات الجبارّة التي قامت بها الجمعيّة، ويكفيها عـزًّا أنها عـلّمته أصول دينه الحنيف ورسّخت فيه التعاليم والمبادئ الرّئيسية للـوحدة الوطنية الـحقَّة، وكانت بذلك المدرسة الأم الأولى المؤسسة لتلك القيم الـسَّامية التي ننعمُ نحنُ بها اليوم.
كما يشهد لها التَّاريخ أنَّها التَّنظيم الوحيد الذي جمع شمل الجزائريين ووحـَّد كلمتهم وأنـارَ لهم الطريق في فترة كانت من أحلك الفترات التي مـرَّ بها الشَّعب الجزائري المُسلم إبَّان الاستعمار الفرنسي الـغاشم.
فقد تـمكَّن الشيخ العلامة المرحوم عبد الحميد بن باديس بـمعيَّة إخوانه العلماء العاملين في تأسيس الجمعية في 17 من ذي الحجة 1349هـ الموافق لـ: 05 ماي 1931م، والتي ظهرت على الـساحة الوطنية إثر احتفال فرنسا بالـذّكرى المائوية لاحتلالها للجزائر الذي أظهر فيها استفزازا للشّعب الجزائري بما أقامته من استعراضات عسكرية في أكبر المدن الجزائرية حضرها رئيس الجمهورية الفرنسية حينها ليؤكد أن الجزائر قد صارت فرنسية وجزءًا لا يتجزّأ من فرنسا، وأنَّ الإسلام قد تمَّ القضاء عليه، واللُّغة الفرنسية هي لغة الـجزائر.
وعلى إثر هذا الوضع الـمُزري قَيَّض الله تعالى للأمَّة الجزائرية صـفوة من الـرّجال انتقاهم فحملوا على عاتقهم أمانة ومسؤوليّة راية الإصلاح والـتَّغيير في الجزائر.
هؤلاء العلماء الـرَّبانيون العاملون المصلحون الذين كوَّنهم ” الـهَدي الـمُحمَّدي عند بدايات الدعوة من ” دار الأرقم بن أبي الأرقم النَّمُوذجيّة”، تلك الـدَّار التي عُرفت على مدار التَّاريخ بأنها مدرسة ربَّى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التَّوحيد والجهاد والـدَّعوة، وتحمل هذه الـدار في أركانها تفاصيل مُباركة حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع فيها بالمسلمين ســرًّا حفاظا على دعوته وأصحابه، إذ كانت بعيدة عن أنظار المُتربّصين بالإسلام.
وتعود الـدار التي تقعُ على جبل الـصَّفا لرجُل اسمهُ عبد مناف بن أسد المَخزومي الـقُرشي الـكناني ويُكنَّى أبا عبد الله وكان سابع رجل يدخل في الإسلام، وقيل كان ثاني عشر من الذين أعلنوا إسلامهم، وفي هذه الـدّار أسلم كبار الـصَّحابة وأوائل المسلمين.
وكان الأرقم –رضي الله عنه- في الـسادسة عشرة من عمره يوم أسلم، لـذا لم تكن قريش لـتُفكّر حينها في البحث عن ” مـركز تجمُّع المسلمين ” في هذه الـدار، لأنّهُ لم يخطر في بالها أن تبحث في ” بُيوت الـصّبيان الـصّغار ” بل يتّجه نظرها إلى بيُوت كبار الصَّحابة، وهـذا من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختيار هذه الـدَّار الـمُباركة.
وقد اتَّخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم دارُ الأرقم مـقَّرًا سـرّيًا لـدعوته والحفاظ على أصحابه وتربيتهم وإعدادهم بعد المواجهة التي حدثت بين سعد بن أبي وقّاص – رضي الله عنه- وقريش، وقام خلالها بشجّ رأس أحد المشركين.
تُعد ” دارُ الأرقم” بحق أعظم مدرسة للتّربية والإعداد في تاريخ الـبشرية ومن ثَم واصل الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته الـسّرية وتربيته لأصحابه إذ تخرّج منها قادة حـرّروا الـبشريّة من رق الـعبودية وأخرجهم من الظلمات إلى الـنُّور، بعد أن ربّاهم وأعدّهم صلى الله عيه وسلم خير إعداد – الإعداد النّموذجي- لكل دعوة هـادفة، ومواصلة للـدور العظيم في خدمة الإسلام الذي قدمته هذه الـدّار، والتي فتحت آفاقاً مستقبلية واسعة للأجيال اللاحقة الذين ساروا على خطاهم ونهجوا نَهجهم لتصبح بذلك الـنَّواة واللّبنة الأولى لأي عمل دعوي مؤسس ناجح.
كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أوَّل تنظيم شعبي أدركَ هذا المعنى، فانتهجت نهج الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إدراكًا منها أنَّهُ لا مخرج ولا حلَّ للشَّعب الجزائري الذي كان يُعاني من ويلات الاستدمار من كل النَّواحي إلاَّ بإتباع سبيل الـرَّشاد القائم على كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه الكريم الـقَائد الأعلى والأوَّل للبشريّة جَمعاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث هداية للعالمين.
ولعلَّ أبرز ما رفع شأن الـجزائر في هذا المجال ” جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” التي تحتفلُ اليوم بمرور أربعة وتسعين عاما على إنشائها وهذا يدعونا إلى الـتَّأمل والـتَّدبير في الحديث النَّبوي الشَّريف: {إنَّ الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجددُ لها دينها} حديث صحيح
كما عبَّر عن ذلك إمام نهضتنا الإصلاحية الشاملة المباركة بالجزائر الشيخ العلامة المرحوم عبد الحميد بن باديس الرَّئيس الأول لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إذ يقول عن إخوانه العلماء في حفل اختتامه لتفسير القرآن الكريم سنة 1938م: { من حظ الجزائر الـسَّعيد ومن مفاخرها التي تتيه بها على الأقطار أنَّهُ لم يجتمع في بلد من بلدان الإسلام في ما رأينا وسمعنا وقرأنا مجموعة من العلماء وافرة الحظ مؤتلفة القصد والاتجاه مُخلصة النّية متينة العزائم متحابة في الـحق مجتمعة القلوب على الإسلام والعربية قد ألَّف بينها العلم والعمل مثلما اجتمع للجزائر في علمائها الأبرار }.
هذا ما علمناه عن جمعيتنا المُباركة الـعتيدة بعُلمائها الأجلاّء قديمًا … أمـَّا ما علمته أنا وعايشته مع فضيلة الشيخ المرحوم العلامة عبد الرحمن شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن قُرب منذ إعادة انبعاث الجمعية من سنة 1999م إلى غاية وفاته سنة 2011م وإلى غاية يومنا هذا… أقف هنا لأذكّر القارئ الكريم بأهم الإنجازات التي عايشناها وحقّقناها بمعية أبي الرّوحي وشيخي فضيلة الشيخ المرحوم العلامة عبد الرحمن شيبان ومن تلك الأعمال الجليلة أذكر على سبيل المثال أننا في بدايات الأمر كنا في قصر حسن – بساحة شهداء- قرب جامع كتشاوة وبالموازاة كنا مع نظارة الشؤون الدينية والأوقاف لولاية الجزائر العاصمة، وبعد مرور مدة من الزمن إنتقلنا إلى حسبن داي شارع محمد مربوش- مدرسة نيقريي سابقا- ومنها انطلقت الانجازات..بدأنا من الصّفر في إعادة ترتيب بيت الجمعية إداريا، جمع الوثائق، تكوين الشُّعب الولائية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، إقامة ملتقيات دولية منها ” ملتقى الشّيخين” وكان للشيخ الرئيس عبد الرحمن شيبان حضور نوعي داخل وخارج الوطن لتمثيل الجزائر في المحافل الدولية أذكر على سبيل المثال مجمع الفقه الدولي بجدة، ومجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية بطهران ويا له من تمثيل، دون أن أنسى أنه يعود الفضل بعد الله تعالى له في ترسيم اللغة العربية الخامسة بجهوده ومساعيه، وكذلك إعداد كتب خاصّة بالشيخ الرئيس شيبان ككتاب ” حقائق وأباطيل ” وكتاب حول موضوع ” قضية فلسطين “يذكر فيه كل المعلومات حول الجمعية المباركة وكُنت أنا -بفضل الله تعالى- كاتبة تلك المقالات القيّمة، وأرفق هذا المقال بشهادة أعــتزّ وأفتخرُ بها كتبها لي المرحوم الشيخ العلامة عبد الرحمن شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على ظهر كتاب ” حقائق وأباطيل “.
كما لن أنسى ما حييت ذلك العمل الجبَّار الذي قُمتُ به عند الإعداد والتَّحضير للمؤتمر الـثالث الفريد من نوعه، كمًّا ونوعًا، الذي انعقد في ناحية زرالدة في عام 2008م، ولاحـقًا أعد القارئ الكريم – إن شاء الله تعالى – أن أقوم بإعداد ملف كامل عن موضوع” إعادة إحياء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مُرفقا بالصور” في كل من قصر حسن وفي حسين داي وفي ناحية زرالدة حيث أقيم ذلك المؤتمر التَّاريخي المشهود، كما لا أنسى الوصية الخالدة التي أملاها علي الشيخ الرئيس المرحوم العلامة شيبان من مصحة الشفاء يوصى فيها بأهم النقاط لاتباعها للحفاظ على جميعة العلماء المسلمين العتيدة المُباركة.
قلُتُ ذلك المؤتمر المشهود حيث ألقى الشيخ الرئيس شيبان كلمته القيمة قائلا: {كانت جمعية العلماء ولا زالت بفضل الله تعالى واحة آمان واطمئنان للجزائريين، والبيت المشترك الذي يحتضن جميع الجزائريين على اختلاف انتماءاتهم السياسية الإسلامية وتدعيم مقومات الوحدة الوطنية والدفاع عن الانتماء الحضاري للجزائر.
فجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين منذ تأسيسها هيئة شعبية جامعة ولم تكن ملكية شخص ولا جمعية حزب أو مذهب أو طائفة أو جهة معينة، ولذلك كانت من المنظمات الأوائل غير الحكومية التي باركت سياسة ” المصالحة الوطنية ” وعملت وما زالت تعمل بكل طاقتها لدعم هذه السياسة وإنجاحها، وهي تعمل دائما وفق شعارها الذي يحمل الثلاثية المقدّسة ” الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا “
وعليه، ندعو الشعب الجزائري الكريم بهذه المناسبة المباركة إلى الالتفاف حول ” الجمعية الجامعة” أم الجمعيات والاستزادة منها بعد أن أضحت المتمسّك الوحيد لهم.
وفي الختام نأمل أن يُحقّق الله تعالى للعلاّمة المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس و إخوانه العلماء الرَّبانيين المصلحين- مَن يَرثُون هذا ” التُّراث العلمي المجيد ” وذلك بحرص الأجيال المتعاقبة على اقتفاء أثر أسلافهم الأمجاد علمًا وعملاً وسُلوكًا، وأن يُوفق الشعب الجزائري وقياداته العلمية والسّياسية والاجتماعية الرّسمية منها والشّعبية على تأييد مساعي ” جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ” في ما تعمل له لتحقيق ازدهار ورقي البلاد وخير العباد في كنف الحرية والأمن والاستقرار والأخوة والعدل والوحدة الوطنيّة.