القراءة الموضوعية للتاريخ

أ. خير الدين هني/ ينبغي التنبيه إلى أن دراسة التاريخ السياسي موضوعيا، لا يراد به الفذلكة والتفكّه والتسلية والترويح عن النفوس المكلومة، وإنما الغاية منه هو استخلاص العبر والمواعظ، للاستفادة مما يمكن الاستفادة منه في خوض التجارب السياسية الجديدة، وليس لنكئ الجراح والتثليب على من صنعوا أحداثه ووقائعه المأساوية، أو لمجرد سرد وقائعه من أجل …

مايو 19, 2025 - 13:01
 0
القراءة الموضوعية للتاريخ

أ. خير الدين هني/

ينبغي التنبيه إلى أن دراسة التاريخ السياسي موضوعيا، لا يراد به الفذلكة والتفكّه والتسلية والترويح عن النفوس المكلومة، وإنما الغاية منه هو استخلاص العبر والمواعظ، للاستفادة مما يمكن الاستفادة منه في خوض التجارب السياسية الجديدة، وليس لنكئ الجراح والتثليب على من صنعوا أحداثه ووقائعه المأساوية، أو لمجرد سرد وقائعه من أجل التشفي أو المتعة بأخبار المهووسين من المغامرين، أو للتسلي بمصائبه ومآسيه وجراحه التي تركت آثارا عميقة في الشعور الفردي والجمعي للإنسان، وانعكاس أحداثه المدمرة على حياة ومستقبل الأجيال اللاحقة.
واستخلاص العبر من التجارب الخاطئة التي ارتكبها المتأولون المغامرون، والطامحون وأصحاب المنافع والمصالح من المتمركزين حول ذواتهم وإنيتهم وعنديتهم؛ يفيد الأجيال اللاحقة في جعلهم ينتهجون قراءة التاريخ قراءة متأنية متبصّرة واعية، من غير ميل عاطفي ولا حيف ولا جور ولا تلبيس ولا تدليس ولا إخفاء، ولا تقليد للمدارس القديمة والحديثة ممن تحب اللعب بالحقائق والعبث بالتاريخ، لخدمة أهداف سياسية أو فكرية أو مذهبية أو أيديولوجية، ويربطون ما قرأوه وعدّلوه وصوّبوه بميزان الحق والعدل والإنصاف، بمعايير عصورهم التي حكمتها قوانين أزمنتهم.
وهي الأزمنة التي سيطرت ظروفها وتعقيداتها السياسة والثقافية والنزعوية على أفكارهم ومشاعرهم واتجاهاتهم، وإذا تُركت لأهواء المزاجيين والنزعويين ليؤولوها كما تهوى نفوسهم ولم تُدرس بمعاييرها التاريخية، سوف تؤل بهم نتائجها -حتما- إلى نكسة جديدة ستصيب الضمير والشعور الفردي والجمعي في مقتل، بما يجعلهم يعيدون تكرار إنتاج مآسيهم السياسية في صيغ جديدة، تعتمد التأويل الزائغ الذي استُعمل من قبل في تجارب سياسية مستهلكة، وسيصبح التاريخ السياسي للأمم يعيش في نكبة دورة إعادة إنتاج الأزمات والمآسي، على نحو ما يوجد لدى بعض المجتمعات الأيديولوجية التي يسيطر عليها كبار البيروقراطيين، وستبقى هذه المجتمعات التي تحكمها الدورة التاريخية المتكلّسة التي تدور على نفسها في محور ثابت، كما تدور الأرض على نفسها سرمديا، فلا ينتج عن ذلك إلا تعاقب الليل والنهار في حركة روتينية بلانهاية، والمجتمعات التي تدور في هذا المحور التوقيفي بإرادة خارجية أو طوعية، ستعيش في حالة جمود وركود أبدي، وستنتابها غفلة عدم الإحساس بالألم والشعور بالمشكلات التي هي سبب نكساتها، وسيكون استنساخ الأزمات هو سبيل حياتها ومستقبلها، يؤخذ أكسير خلوده من الغفلة وعدم التحوط من المخاطر المتأزمة.
إذ إنّ التحوُّط في سياقاته الصحيحة، هو من يمنح الفرد أو المجتمع القدرة على التنبؤ بحركة التاريخ الصحيحة، من حركاته الزائفة التي يروجها المنتفعون من أجل المنافع الشخصية، والتحوّط السياسي المتيقّظ كالتحوط التجاري الذي يراقب فيه التجار الأذكياء تحركات أسعار الأسواق أو الأسهم خلال إطار زمني معين، ولذلك يمكن للتحوط التجاري أن يساعد على تخفيف الخسائر، فالتحوّط هو إستراتيجية النابهين ممن لهم مهارة إدارة المخاطر، التي يمكن أن تساعد على تقليل احتمالات الخسائر والأزمات والنكباب!!
فالإنسان خلق ليعيش في أزمنة ثلاثة؛ الماضي الذي تكدست فيه الخبرات والتجارب بخيرها وشرها وصوابها وخطئها، وهو مدعو إلى تصحيح التجارب الخاطئة من طريق التشخيص الدقيق للعوامل التي تسببت في إحداث تلك التجارب؛ التي نشأت عنها أزمات ونكبات ومآس ألحقت به أضرارا بالغة؛ أعاقت سيره نحو الأفق المشعّ بالنبض والحياة، والزمن الحاضر وهو الذي يعيش فيه بتجارب جديدة استوحاها من استشرافه وتخطيطه للمستقبل؛ ضمن تصور عقلاني استلهمه من المزج بين التجارب القديمة التي أمعن النظر في خط سيرها، وبين مخططات المستقبل التي توقّع حدوثها، والغاية من ذلك كله هو إقامة علاقة توازن بين الحاضر الذي تحكمه قواعد الواقعية، وبين الماضي الذي جرت فيه الأحداث بخيرها وشرها، وبين المستقبل الطافح بالخيال المبدع الذي يستعمله الموهوبون للتخطيط الجيد للابتكار.
والمستقبل لا يبنى بالخيال الإيهامي الذي يستخدمه الأطفال في مراحل سنهم الأولى، لإشباع رغباتهم في اللهو واللعب والتمثّل بالأفكار الخرافية والأسطورية، فيجعلون الأخيلة الإيهامية في اعتبار الأشياء الجامدة التي يلعبون بها، كأنها مخلوقات حيّة تحسّ وتشعر وتسمع وترى وتمتثل للأوامر والنواهي، وهذا المثل الذي ضربناه هو تنزيل على واقع الراشدين الغافلين في سبات النُوّم.
والخيال الابتكاري هو الخيال الذي تغذيه الأماني، وتحركه في النفوس غرائز الطموح ودوافع النهوض، بالسعي إلى تجذير العقل بنبض التفكير الصحيح الذي ينتهي به السعي إلى الترقي في مراتب الكمال الإنساني، وهو التفكير الذي يجعله يدرك ببصيرة نافذة، التمييز بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، وبذلك –فقط- يمكنه التغلب على الجمود والركود والانكسار النفسي، وما ينتابه من الميل الطوعي إلى نوازع الفشل والاستسلام للهوى والعواطف والهواجس، وهي النوازع المدمرة المترتبة على السلبية في التفكير وترك النفس تستسلم لعوامل الضعف والاستكانة والخمول، وترك أمرها لعبث الواقع البائس، الذي فُرض عليه فرضا وأفقده القدرة على الإحساس بمشكلاته والشعور بمسئولياته.
وما دمنا نتحدث عن تزييف التاريخ لتوجيهه حسب الرغبة السياسية، فإنني اقتطع فقرات من كتاب (الفتنة الكبرى ومشكلات التأويل) لكاتب هذه السطور، (في مقال لاحق) ملخصا في خاتمته كيف تم التلاعب بتاريخ الفتنة الكبرى التي سطرت البدايات الأولى لتغيير التاريخ السياسي لصالح المتغلبين، رغبة أو رهبة في إخفاء أجزاء من حقائقه، وكان هذا التدليس والتلبيس سببا في خلق نكساتنا السياسية، التي تراكمت عبر العصور وبقي بعضها يستنسخ من بعض إلى أيامنا هذه، وقد وقع من هذا الاستنساخ ما يعرفه الجميع من أحداث مدمرة وقاتلة، وزاد الطين بلة ما يسمعه الناس اليوم على الفضائيات من مواصلة تغليط الناس، من بعض الوعاظ الدينيين من الذين ابتلي العصر بهم، بالسير على خطى الأقدمين في التدليس والتلبيس والمغالطة، وكأن ذلك أصل من أصول العقيدة أو الدين.