في نادي الترقي… العلماء يحيون الذاكرة ويجددون العهد:
البصائر – عبد الغني بلاش/ نظمت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بالتعاون مع جمعية الحياة بغرداية، ندوة علمية تاريخية بنادي الترقي بالجزائر العاصمة، يوم الخميس 08 ماي 2025، وذلك تخليدًا لثلاث محطات مفصلية في الذاكرة الوطنية، وهي الذكرى 94 لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (1931)، والذكرى المئوية لتأسيس معهد الحياة بغرداية (1925)، واستحضارًا لأحداث 08 ماي …

البصائر – عبد الغني بلاش/
نظمت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بالتعاون مع جمعية الحياة بغرداية، ندوة علمية تاريخية بنادي الترقي بالجزائر العاصمة، يوم الخميس 08 ماي 2025، وذلك تخليدًا لثلاث محطات مفصلية في الذاكرة الوطنية، وهي الذكرى 94 لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (1931)، والذكرى المئوية لتأسيس معهد الحياة بغرداية (1925)، واستحضارًا لأحداث 08 ماي 1945 الدامية، التي جابه فيها الشعب الجزائري وحشية الاستعمار الفرنسي بتضحيات جسام.
وفي مستهل الندوة، عبّر رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن اعتزازه بالحضور النوعي والمشاركة العلمية الرفيعة، مؤكدًا أنّ مثل هذه التظاهرات الفكرية هي «الدواء الناجع لحالة النفور والتباعد» التي تُعاني منها الجمعية حاليًا، مبرزًا أن هذه اللقاءات تُعيد ربط الجزائريين بتاريخهم وقاماتهم الفكرية، وعلى رأسهم الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي كان يرى في مثل هذه المناسبات فرصًا لبناء الوعي وتجديد العهد مع رسالة الجمعية.
وأضاف: «جمعية العلماء باسمها الجامع لا تزال تُؤمن بوحدة الصف، وتخطط لإحياء كل الذكريات الوطنية والدينية، خاصة في شهر ماي الذي يحمل في طياته رمزية مزدوجة؛ النكبة والأمل». كما أشاد بالحكمة التي أطفأت فتنة كادت تعصف بالبلاد، قائلاً: «كلما أشعل بعض الأشرار نار الفتنة، أطفأها الوطنيون الصادقون».
من جهته، قال الأستاذ عبد الوهاب حميد أوجانة، رئيس جمعية الحياة بغرداية، إنّ اختيار نادي الترقي لتنظيم هذا الحدث «ليس صدفة، بل عودة إلى حيث بدأت الشرارة»، مذكّرًا بأن فرنسا احتفلت في 1930 بمرور قرن على احتلالها الجزائر، فجاء الردّ في 1931 بتأسيس جمعية العلماء، بشعارها الخالد: الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا.
واقتبس الأستاذ أوجانة من كلمات الإمام ابن باديس في أحد المهرجانات: «نربي أبناءنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسهم من أول يوم، وغايَتنا أن نُخرج رجالًا على سلفهم.» وهي الكلمات التي أعاد ترديدها الشيخ بيوض حين نظّم مهرجانًا لتفسير القرآن الكريم بمعهد الحياة.
أما المستشار بوزارة الشؤون الدينية، الأستاذ عمر بفلول، فقد أكد في كلمته على عظمة هذا المكان (نادي الترقي) في الوجدان الوطني، قائلاً: «هنا رُفع لواءُ الدين والعلم والوطن، وهنا نقول: لا إله إلا الله، الجزائر واحدة لا تقبل القسمة.»
المداخلة الفكرية والتاريخية.. العمق الإصلاحي والبعد الوطني
وقد نشّط الجلسة العلمية المؤرخ الأستاذ الدكتور مولود عويمر، أين قدّم الكلمة لبداية مداخلة الشيخ بلحاج بن قاسم بن أحمد وهي مداخلة وُصفت بالعميقة، بيّن فيها أن جمعية العلماء لم تكن مجرد إطار دعوي بل مشروع إصلاحي شامل استهدف بناء الإنسان الجزائري في مختلف مناحي الحياة: العلم، التجارة، الإدارة، الفلاحة، والصناعة. وأوضح أن المشروع استلهم عوامل التغيير من حركات الإصلاح في المشرق العربي، وتأثر برواد الفكر الإسلامي مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
وشدّد على أن الجمعية تصدت بقوة لمحاولات الاستعمار الفرنسي لمحو الهوية الجزائرية من خلال طمس اللغة والدين والقيم.
الشيخ محمد مكركب إبران.. جمعية العلماء
بين العمل والأمل..
تحدث الشيخ محمد مكركب عن مسار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي يمتد من أعماق التاريخ إلى آفاق المستقبل، مؤكّدًا أن الأمل ينبع من الأهداف التي تأسست الجمعية لأجلها، وهي أهداف إصلاحية، تربوية، ثقافية، وعلمية، تهدف إلى بناء الإنسان وتوحيد صفوف الأمة.
وشدّد على أن العمل الجاد هو السبيل لتحويل النظريات إلى تطبيقات عملية، مستشهدًا بآيات من سورة الأنفال التي تصف حال الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تحوّل ضعفهم إلى قوة بنصر الله، مؤكدًا أن الحفاظ على الأمانة التاريخية والمسار الإصلاحي يتطلب جهودًا صادقة.
كما دعا إلى تجاوز أسلوب الاكتفاء بسرد الروايات عن الأشخاص والاكتفاء بذكر مناقب السابقين، بل يجب أن يكون التركيز على العمل الميداني الملموس الذي يخلد الرسالة ويحقق الأهداف التي قامت عليها الجمعية.
الشيخ مصطفى بن صالح… تلاقي عمل العلماء في الجمعية بين الشمال والجنوب
سلّط الشيخ مصطفى بن صالح الضوء على وحدة العمل الإصلاحي بين علماء الجمعية في شمال الجزائر وجنوبها، مشيرًا إلى أولى بوادر هذا التلاقي منذ عام 1943، حيث كانت بداية العلاقة بين الشيخين الكبيرين اللذين وحّدتهما الروح والمنهج رغم تباعد المكان.
واستعرض نماذج من هذا التلاحم، خاصة في منطقة القرارة، حيث تلقى أحد الشيوخ دروسه عام 1911، ليتواصل العمل التربوي والتعليمي بعدها عبر أجيال من الطلبة والعلماء الذين حملوا مشعل الإصلاح. وبيّن أن الشيخ بيود، أحد رموز الجنوب، كان له دور كبير في التعليم والدعوة، رغم قساوة الظروف المعيشية تحت الاحتلال.
تطرّق كذلك إلى معهد الحياة الذي مثّل نواة للمشروع الإصلاحي، وكيف أسهم في تربية أجيال من العلماء، واستمر عطاؤه من 1938 إلى ما بعد الاستقلال، حيث برزت أسماء مثل العقيد عميروش وطلبة البعثات العلمية.
واختتم مداخلته بالتأكيد على أهمية التوثيق والدراسة المعمّقة لهذا التاريخ الإصلاحي الزاخر، مشيرًا إلى ثروة كبيرة من الكتابات التي لم تُحقق بعد، منها ما نُشر في صحيفة “الشباب” بأكثر من 600 عدد، وداعيًا إلى جمع هذا التراث للاستفادة منه في تكريس مشروع الإصلاح الشامل الذي كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ثمرة له.
الشيخ يحيى صاري:
«جمعية العلماء وفلسطين»
استعرض الشيخ يحيى صاري في مداخلته الدور الريادي الذي اضطلع به علماء الجزائر، وخاصة علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في دعم القضية الفلسطينية مبكراً، مؤكداً على إدراكهم العميق لحقيقة المشروع الصهيوني وخطورته منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وهو إدراك سبق وعي الكثير من زعماء العالمين العربي والإسلامي آنذاك.
وسلط الضوء على مواقف رواد الحركة الإصلاحية كابن باديس والإبراهيمي، الذين وصفوا العلاقة بين الاستعمار البريطاني والصهيونية بـ»التزاوج الخبيث»، محذرين من آثاره التدميرية على فلسطين والعالم الإسلامي.
كما أشار الشيخ صاري إلى الدور التاريخي لعدد من الرموز التي سبقت أو رافقت تأسيس الجمعية، مثل عمر راسم، وعمر بن قدور، الذين قدموا تعريفات دقيقة وجريئة للصهيونية.
ولم تقتصر جهود الجمعية على الخطاب والتوعية فقط، بل تعدتها إلى العمل الميداني؛ حيث نظمت الجمعية فعاليات كبرى لدعم فلسطين، وأسست «اللجنة العليا لإغاثة فلسطين» التي شارك فيها كبار العلماء كالشيخ الإبراهيمي، والشيخ العقبي، والشيخ أبو اليقظان، والذي يُذكر أنه وحده جمع نصف ما جمعته اللجنة من أموال.
واختتم الشيخ صاري بالإشارة إلى موقف العلماء الرافض للاعتماد على الهيئات الدولية، مذكّراً بمقال نادر للشيخ فرحات بن الدراجي بعنوان «أيها العرب أنقذوا بلادكم»، والذي انتقد فيه انحياز المنظمات الدولية للمصالح الصهيونية، وشكّك في مصداقية قراراتها تجاه القضية الفلسطينية.
الدكتور مولود عويمر… السياق التاريخي
لمجازر 8 ماي 1945
بدأ الدكتور مولود عويمر مداخلته بالتأكيد على أهمية فهم السياقات التاريخية العميقة لمجازر 8 ماي 1945، مشيرًا إلى أن هذه الجريمة لم تبدأ فعليًا في ذلك اليوم فقط، بل تعود جذورها إلى عام 1940، حينما سقطت فرنسا أمام الاحتلال النازي الألماني. باعتبار أن الجزائر كانت مستعمرة فرنسية، فقد تأثرت بشكل مباشر بهذا الحدث.
في عام 1941، دخل الحلفاء الجزائر، وخاصة الجيش الأمريكي والبريطاني، وظهرت مؤشرات تغيير في نمط الحياة والثقافة داخل البلاد. ومع نهاية الحرب، تجمعت القوى السياسية الجزائرية في مدينة سطيف وأصدرت ما عرف بـ»بيان الشعب الجزائري»، الذي طالب بـتصفية الاستعمار.
الجنرال ديغول، قائد الحكومة المؤقتة الفرنسية، استقبل هذا البيان وتظاهر بتفهم المطالب، لكنه لم يلبها بشكل فعلي، بل اكتفى بإصلاحات شكلية لا ترقى للاعتراف باستقلال الجزائر. ردًا على ذلك، تأسست حركة أحباب البيان والحرية لتأكيد المطالبة بالحقوق.
وفي 1 ماي 1945 خرجت مظاهرات سلمية في عدة ولايات جزائرية، ومع إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية يوم 7 ماي 1945، خرج الشعب الجزائري في مظاهرات ضخمة يوم 8 ماي للمطالبة بحقوقه. فجاء الرد الفرنسي عنيفًا للغاية، حيث تم قمع المتظاهرين بالمدافع والطائرات وبكافة وسائل القمع الوحشي، واستمر ذلك لعدة أيام، سقط خلالها ما يُقدَّر بـ45 ألف شهيد.