الأسرة المسلمة في مواجهة رفع التحفظات: بين النصوص الشرعية والتحديات المعاصرة
أ. كريمة عشيري */ لم يكن رفع التحفظات عن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) حدثًا عابرًا في المشهد القانوني الجزائري، بل مثّل محطة فارقة أعادت إلى الواجهة أسئلة كبرى عن هوية الأسرة المسلمة وحدود المرجعية الشرعية أمام الضغوط الدولية. لقد وقّعت الجزائر على الاتفاقية سنة 1996، لكنها أبدت تحفظها على المادة …

أ. كريمة عشيري */
لم يكن رفع التحفظات عن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) حدثًا عابرًا في المشهد القانوني الجزائري، بل مثّل محطة فارقة أعادت إلى الواجهة أسئلة كبرى عن هوية الأسرة المسلمة وحدود المرجعية الشرعية أمام الضغوط الدولية.
لقد وقّعت الجزائر على الاتفاقية سنة 1996، لكنها أبدت تحفظها على المادة 15 الفقرة 4، التي تنص على حق المرأة في حرية اختيار محل السكن والتنقل، لأن تلك المادة كانت آنذاك في تعارض صريح مع قانون الأسرة (المادة 37)، حيث نصّ القانون على أن الزوج هو المسؤول عن تحديد محل إقامة الأسرة. غير أن تعديل قانون الأسرة سنة 2005 ألغى تلك المادة، فأصبح سبب التحفظ القانوني غير قائم. ومن ثَمّ، أعلنت السلطات الجزائرية في مطلع 2025 رفع التحفظ، واعتبرت ذلك إجراءً تقنيًا لا يمس جوهر التشريع الوطني.
لكن السؤال الجوهري يبقى: هل المسألة تقنية بحتة، أم أننا أمام خطوة جديدة في مسار علمنة قوانين الأسرة المسلمة؟
أبعاد شرعية تتجاوز “التقنية”
من منظور إسلامي، لا يمكن التعامل مع اتفاقية سيداو باعتبارها مجرد التزامات شكلية، لأنها تنطلق من فلسفة مساواة مطلقة بين الرجل والمرأة، متجاهلة خصوصيات التشريع الإسلامي. فالإسلام أقرّ للمرأة حقوقًا عظيمة في الميراث، والنفقة، وحسن المعاشرة، لكنه في الوقت نفسه ضبط العلاقة الأسرية بضوابط تحقق التكامل لا التماثل.
ولذلك، فإن رفع التحفظ عن مادة ترتبط بمفهوم القوامة والولاية ليس تفصيلاً عابراً؛ لأنه يفتح الباب أمام الطعن في أساسيات التشريع الأسري الإسلامي، مثل:
– شرط الولي في الزواج.
– مسؤولية الزوج في الإنفاق والسكن.
– ضوابط خروج المرأة وسفرها.
تداعيات اجتماعية محتملة
حتى وإن كان التبرير الرسمي أن القوانين الجزائرية منذ 2005 لم تعد تضع قيودًا على حرية المرأة في اختيار محل السكن، فإن الرمزية الدولية لرفع التحفظ أخطر بكثير من النص القانوني نفسه. إذ يمكن أن تُستغل الخطوة للضغط لاحقًا من أجل:
– إلغاء شرط الولي في الزواج باعتباره “تمييزًا ضد المرأة”.
– الدفع نحو مساواة مطلقة في الميراث، مخالفة لقوله تعالى: “للذكر مثل حظ الأنثيين”.
– تغيير بنية الأسرة المسلمة لتتماهى مع النموذج الغربي الذي يقوم على الفردانية المطلقة لا على المسؤولية المشتركة.
وبذلك، فإن رفع التحفظ ليس مجرد إجراء إداري، بل مقدمة لتنازلات أكبر، خاصة في ظل ما نشهده من حملات إعلامية مكثفة لتشويه صورة القوامة الشرعية واعتبارها “قيدًا على حرية المرأة”.
الأسرة المسلمة خط الدفاع الأول
إن الحفاظ على هوية الأسرة في الجزائر اليوم ليس مسؤولية الدولة وحدها، بل هو مسؤولية مشتركة بين الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والإعلام. فلا بد أن ندرك أن معركتنا الحقيقية ليست فقط مع نصوص قانونية، بل مع موجة فكرية عالمية تريد اقتلاع الأسرة من جذورها، واستبدالها بعلاقات عابرة تقوم على “المساواة الشكلية” بدل المسؤولية الشرعية.
معالم للتصدي والتصحيح لمواجهة هذا التحدي، نقترح:
1. تعزيز الوعي الشرعي: بتوضيح الحكمة من أحكام الشريعة المتعلقة بالقوامة والولاية والميراث، وأنها ليست تمييزًا بل تنظيمًا إلهيًا يضمن العدل والاستقرار.
2. تفعيل الخطاب الإعلامي: ليكشف للجمهور خطورة استيراد منظومات قانونية غربية لا تناسب بيئتنا الإسلامية.
3. تقوية دور المجتمع المدني: عبر الجمعيات والمبادرات التي تدافع عن القيم الأسرية الأصيلة.
4. المراجعة المستمرة للتشريعات: لضمان عدم انزلاقها تدريجيًا نحو التناقض مع مقاصد الشريعة.
وختاماً نؤكد إن رفع التحفظ عن بند من بنود “سيداو” قد يبدو للبعض مجرد خطوة إجرائية، لكنه في حقيقة الأمر جرس إنذار يذكّرنا بواجبنا في حماية الأسرة المسلمة من التذويب والاختراق. فالمعركة اليوم ليست على ورق فحسب، بل هي معركة على الهوية والمصير.
وإذا كان خصوم الإسلام يراهنون على تفكيك الأسرة ليفككوا المجتمع، فإننا نراهن على وعي الأمة وتمسكها بدينها، مستحضرين قوله تعالى: “ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب” [الطلاق: 2-3].
* كاتبة وباحثة في الشؤون الإسلامية*