الشيخ الإمام «عبد الحميد بن باديس»: القدوة الصالحة لِأئمتنا الأحرار
أ. البدر فارس/ يُحيي الأئمة الجزائريون، يومهم الوطني المصادف ل15 سبتمبر من كل سنة، الذي أقره رئيس الجمهورية، السيد «عبد المجيد تبون»، تقديرا وعرفانا للأدوار العلمية والثقافية والاجتماعية التي يضطلع بها الأئمة الذين شاركوا بالأمس في تحرير الوطن ويساهمون اليوم في تنوير المجتمع تعزيزا لمنهج الوسطية وصونا للهوية الوطنية والدفاع عنها. فمِن رحاب المساجد انطلقت …

أ. البدر فارس/
يُحيي الأئمة الجزائريون، يومهم الوطني المصادف ل15 سبتمبر من كل سنة، الذي أقره رئيس الجمهورية، السيد «عبد المجيد تبون»، تقديرا وعرفانا للأدوار العلمية والثقافية والاجتماعية التي يضطلع بها الأئمة الذين شاركوا بالأمس في تحرير الوطن ويساهمون اليوم في تنوير المجتمع تعزيزا لمنهج الوسطية وصونا للهوية الوطنية والدفاع عنها.
فمِن رحاب المساجد انطلقت قوافل المجاهدين والشهداء، بدءًا من الثورات الشعبية المباركة، إلى ثورة نوفمبر الخالدة، وعلى رأسهم سادتنا الأئمة الذين ضربوا أروع الأمثلة في النضال والجهاد في سبيل الله بالنفس والنفيس، كما أفشلت جهود ومساعي المُستعمر الظالم، الذي حاول بكل الوسائل والأساليب طمس الهوية الوطنية الجزائرية؛ فسادتنا الأئمة الكِبار وعلى رأسهم إمامنا المُبجل الشيخ الإمام العلَّامة «عبد الحميد بن باديس» هم الذين تمكنوا من إفشال مُخططات تمزيق وحدة شعبنا العزيز بتصديهم للمؤامرات والمكائد التي انتهجتها السُّلطة الفرنسية إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر.
غير أن أئمة اليوم ليسوا بِأئمة الأمس؛ فقد أصبحت مهامهم ودعوتهم محصورة في جانب من الجوانب، أو اتجاهًا من الاتجاهات… فهي ضيقة في مدلولها… محدودة في أفاقها… قاصرة عن عموم النفع، وشمول الإصلاح. أما مهام ودعوة شيخنا وإمامنا الجليل «عبد الحميد بن باديس» وأصحابه من الأئمة الأجلاء الأماجد -وقتئذٍ- فقد برزت في كل مناحي القيادة، والأخلاق، بل في كل مناحي الحياة… مما جعلها مهام ودعوة شامخة وفريدة… وصل شموخها عنان السماء، لو تدانى منها غيرها من سلوك وأساليب بعض أئمتنا اليوم لَهوت، ولو حلَّق إليها غيرها من مواقف وأخلاق بعض أئمتنا اليوم لَسقطت.
هذه هي الحقيقة المؤسفة، التي لا حق لنا في إنكارها؛ فالدور المجتمعي للإمام والدعاية هو دورٌ كبير ومُهم، بل دورٌ غاية في الأهمية، ذلك الدور الذي يجعلني لا أُبالغ حين أصف الإمام أو الداعية بِأنه صمام أمان لِأي مُجتمع من أي فكر مُتطرف، وهو قوة ناعمة للإصلاح والتقدم والرُّقي، وذلك بشرط أن يتقي الإمام أو الداعية ربه في دعوته إلى الله ويستحضر دائمًا أنه نائب عن الجناب النبوي الشريف… نعم الإمام نائب عن حضرة المُصطفى ﷺ… فبِالله على كل من يقرأ كلامي هذا لو حضر رسول الله ﷺ بيننا وهو بِأبي هو وأمي ما غاب يومًا عنا ولكننا غبنا عنه وتخلفنا عن ركبه فتخلفنا، لو حضر رسول الله ﷺ في مُجتمعنا أكان توجد هناك مشكلة تستعصي على الحل، كلا وألف كلا، فعلى الإمام أن يستحضر أنه نائب عن الجناب النبوي الشريف، وليس معنى ذلك أن يظن نفسه مَعصومًا أو مَبعوث العناية الإلهية، بل لا بد أن يعمل لله حقه في ميراث النبوة الذي أمنه عليه وأنها أمانة فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وإني أقسم بالله العظيم لو كان كل إمام أو داعية في مُجتمعه استحضر ذلك لما وجدنا مشكلة في أي مجال من مجالات الحياة اليومية إلا وكان لها حل سواء على الصعيد الاجتماعي أو الأمني أو الثقافي أو العلمي أو الاقتصادي أو البيئي، فلا بد للإمام أن يكون حاضرًا بِقوة في مجتمعه، كفاه غيابًا عن الساحة أكثر من ذلك، ولا شك أن أول طريق لِذلك حتى يحضر بِقوة أن يسعى الإمام أن يُكوِّن نفسه تكوينًا علميًا وثقافيًا سليمًا. وهذا لا يكون إلا عندما يخرج الإمام من عقلية الإمام المُوظف الذي يُؤدي مُجرد وظيفة إلى أن يصبح خبيرًا بكل ما يحدث من حوله ويسعى في تحقيق ذلك بِنفسية الطلب لا نفسية الهرب؛ نفسية الإمام الخبير التي تجد لِكل مشكلة ألف حل وحل في زمانها بل وتسبق زمانها وتضع الحلول لِمشكلات ربما تحدث لِأجيال قادمة تمامًا كما كان الأساطين من علماء هذه الأمة أجدادنا الأماجد، ولذلك فإن التكوين العلمي الرصين هو الذي يجعل الإمام مُؤهلًا لِكل ذلك، وبالله التوفيق.
أيها الإمام: لك في سيرة إمامنا الجليل «عبد الحميد بن باديس» القدوة الصالحة؛ فاسْعَ على منوالها تكن من الفائزين… فليعلم أخي الإمام أن الشيخ الإمام العلَّامة «عبد الحميد بن باديس» هو الفقيه الثائر الذي حارب بِأنوار العلم ظُلمات المُستعمر؛ فهو الأب الروحي للثورة الجزائرية.
وإلى جانب طلبة المدارس، شهد بعظمة هذا الرجل طيلة هذه السنوات أعلام الصحوة الإسلامية أمثال الإمام «حسن البنا»، والشيخ «محمد الغزالي»، والأستاذ «سيد قطب»، وحتى غير العرب من أمثال «جاك بيرك»، و»شارل أندري جوليان»… فهو العالم الثائرالذي مهّد لانطلاق الثورة الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر.
وصدق الشيخ «سعيد شيبان» -رحمه الله- عندما وصف الشيخ «بن باديس» بأنه كرامة من كرامات الأمة الإسلامية، واصفا إياه كذلك بأنه أحد نجوم تاريخ النهضة والصحوة الإسلامية قاطبة، فأثره متأصل ومستمر.
وليعلم أخي الإمام أن شيخنا وأستاذنا الإمام «بن باديس» أمّ الناس في صلاة التراويح -على صغر سنه- طيلة ثلاث سنوات في جامع قسنطينة الكبير…
وليعلم أخي الإمام أن «بن باديس» ظهر في عصر ذابت فيه ثقافة الشعب الجزائري بعادات المحتل الفرنسي… فعند عودته للجزائر من «الحجاز» كان الوطن على حاله؛ على فقره وجهله وقلة حيلته جزءا من فرنسا الأم، كما يتغنى بذلك السياسيون في باريس، ولكنه الجزء الأقل حظا.
وقد سادت التقاليد الفاسدة، والطرق الصوفية المنحرفة عن التصوف الحقيقي، المتعاونة أحيانا مع السلطة الفرنسية، واختفى تدريس اللغة العربية في المدارس الرسمية، كما بلغت معدلات الأمية حدودا مخيفة مع تراجع دور الكتاتيب ومدارس القرآن، وصارت العربية تُدرّس بوصفها لغة أجنبية، والفرنسية لغة وطنية، وبين التنصير والتجنيس كانت الجزائر على وشك أن تصير بلدا غريبا عن الجزائر.
ولكن هذا لم يكن رأي «بن باديس» الذي كان يقول إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، وهذا ما كان بالفعل ليس بالكلام فقط، بل بالفعل والعمل وهذا بعد تضحيات جِسَـام وعِظام.
ولا تنس أخي الإمام موقف شيخنا وأستاذنا وإمامنا الجليل «بن باديس» عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، وكانت فرنسا أولى ضحاياها بعد أن اجتاح النازيون باريس، وصار المستعمر نفسه ضحية للاحتلال والمهانة، وقد أعلنت فرنسا حالة الطوارئ في مستعمراتها، وطلبت سلطاتها من «الجمعية» إصدار بيان مؤيد لفرنسا.
كان الموقف خطيرا، واشتد الخلاف بين علماء نادي «الترقي»، واختار بعض مؤيدي إصدار البيان مثل الشيخ «الطيب العقبي» الاستقالة من الجمعية، أما الشيخ «عبد الحميد بن باديس» فتشبث بخيار الرفض الذي لخّصه بقوله: «والله لو طلبت مني فرنسا قول لا إله إلا الله لما قلتها».
وليعلم أخي الإمام كم كلّفه هذا الموقف الكثير فقد خضع لما يُشبه الإقامة الجبرية، كما نُفي نائبه «الإبراهيمي» إلى الصحراء بعد أن رفض تأييد فرنسا أيضا. ولم يُصدر «بن باديس» عدد سبتمبر 1939م من مجلة «الشهاب»، لأنه لم يُرد أن يكتب شيئا لصالح الاستعمار.
انظر أخي الإمام كيف اقتادت فرنسا الشيخ الجريء إلى الإقامة الجبرية في بيته ب»قسنطينة»، ولكنه لم يكن ينوي البقاء في القفص أكثر من أشهر قليلة. أرسل رسالة أخيرة إلى نائبه ورفيق دربه «البشير الإبراهيمي» -الذي زجت به فرنسا في السجن- يُحيّيه فيها على صموده قائلا: بلغني موقفكم الشريف العادل، وأقول لكم «الآن يا عمر». اقتباسا من قول النبي ﷺ ل»عمر بن الخطاب»، بعد قوله إن النبي ﷺ أحب إليه من نفسه، حيث قال «بن باديس» مقولته المشھورة: «فإذا هلكتُ فصَيْحتي: تحيا الجزائر والعرب».