قطوف من أخلاق التجار – بين الأصالة والواقع
أ. حشاني زغيدي/ المقدمة: الإسلام وانتشار القيم لا السيف قد يظنّ البعض – جهلاً أو مكرًا – أن الإسلام انتشر بحد السيف، كما يُروّج في بعض المنصات، أو كما تصوره الأفلام والمسلسلات، وتروّج له أقلام المستشرقين المستغربين. غير أن الحقيقة الساطعة تكذب هذا الادعاء. الفتوحات الإسلامية جسّدت في حقيقتها قيماً إنسانية راقية، فتحت بها القلوب …

أ. حشاني زغيدي/
المقدمة: الإسلام وانتشار القيم لا السيف
قد يظنّ البعض – جهلاً أو مكرًا – أن الإسلام انتشر بحد السيف، كما يُروّج في بعض المنصات، أو كما تصوره الأفلام والمسلسلات، وتروّج له أقلام المستشرقين المستغربين.
غير أن الحقيقة الساطعة تكذب هذا الادعاء.
الفتوحات الإسلامية جسّدت في حقيقتها قيماً إنسانية راقية، فتحت بها القلوب قبل أن تُفتح بها البلدان.
بل إن كثيراً من الأمم دخلت في الإسلام طوعاً لا كرهاً، نتيجة الاحتكاك المباشر بأخلاق المسلمين.
وكان من أبرز من ساهم في نشر هذا النور: التجار المسلمون، الذين استقر قسم منهم في إفريقيا وآسيا طلباً للرزق، فكانوا سفراء للدعوة بأخلاقهم قبل أقوالهم.
دور التجار المسلمين: القدوة العملية قبل التجارة
حينما استقر التجار في تلك البلاد، تفاعلوا بصدق مع أهلها، فتعلموا لغاتهم، وشاركوا عاداتهم، واحترموا تقاليدهم.
لم يكن معهم سيف، بل كان معهم سلوك نابع من الإسلام:
الصدق، الأمانة، السماحة، حسن العشرة.
لقد نزلت أخلاقهم كالغيث على فطرة تلك الشعوب، فاستجابت القلوب، وقبلت الإسلام عن قناعة ورضا.
فـالفطرة السليمة تنجذب إلى القيم الرفيعة، والخلق الحسن يسكن النفوس ويُطمئنها لرسالة التوحيد والعدل والتسامح.
سؤال محوري: أي ميراث ورثه تجار اليوم؟
إذا كان سلفنا من التجار عاشوا لمشروع نبيل، ورسموا في المجتمعات من حولهم أثراً طيباً،
فالسؤال الجوهري:
ما الذي يقدمه تجار زماننا؟
وما الأثر الذي يتركونه في مجتمعاتهم اليوم؟
مظاهر تحتاج إلى إصلاح في واقع التجارة المعاصرة
مع الأسف، فإن واقع بعض الممارسات التجارية اليوم يشير إلى تراجع في التمسك ببعض القيم الأصيلة.
مع التنبيه إلى أن هذه المظاهر ليست عامة، فالكثير من التجار لا يزالون متمسكين بأخلاقهم، لكنها موجودة وتحتاج إلى تنبيه ومعالجة.
1. عدم الالتزام بمواعيد العمل المثلى:
تأخر فتح المحلات في أوقات الذروة.
إغلاق المحلات مبكراً دون مراعاة لاحتياجات الناس.
عدم انتظام المواعيد بما يُعطل مصالح المستهلكين.
2. مخالفات في التسعير والجودة والوفاء بالمعايير:
رفع الأسعار دون مبرر.
عدم الدقة في الكيل والميزان (تطفيف).
احتكار السلع في الأزمات.
بيع الرديء بسعر الجيد.
3. قصور في آداب التعامل مع الزبائن:
الغلظة أو التجهم أثناء البيع.
رفع الصوت والتضجر.
غياب الرفق واللين في التعامل.
4. تجاوزات في الالتزام بالعهود والوعود:
التأخير في التسليم.
نقض الوعود.
التسويف في دفع الحقوق المالية (للموردين أو العمال).
إن ذكر هذه المظاهر ليس تشهيراً، بل تنبيهاً على خلل يحتاج منا جميعاً – تجاراً ومستهلكين ومجتمعاً – إلى تكاتف لإصلاحه، والعودة إلى المنهج النبوي القويم الذي يرسخ الثقة ويضمن النجاح.
من هدي النبوة: نور الإصلاح وطريق الجنة
أمام هذه الممارسات المنحرفة، يقدم لنا الهدي النبوي الشريف برنامجاً عملياً أخلاقياً، يضمن للتاجر النجاح في الدنيا والآخرة، ومن أهم هذه القيم:
• التبكير في العمل (قيمة الوقت واحترام الناس):
قال ﷺ: «اللهم بارك لأمتي في بكورها»
وكان صخر الغامدي يُرسل تجارته في أول النهار فأثرى. [رواه الترمذي وحسنه]
• السماحة في البيع والشراء (أساس الثقة والعلاقات الطيبة):
قال ﷺ:
«أدخل الله رجلاً كان سهلاً مشترياً، وبائعاً، وقاضياً، ومقتضياً، الجنة» [رواه النسائي وحسنه الألباني]
• الصدق والأمانة (حجر الزاوية في التجارة):
لقّب النبي ﷺ قبل البعثة بـ»الصادق الأمين».
وهاتان الصفتان هما أساس النجاح التجاري والقبول عند الناس.
• التحذير من الفجور والالتزام بالتقوى:
قال ﷺ: «إن التجار يُبعثون يوم القيامة فُجّاراً، إلا من اتقى، وبرّ، وصدق»
[رواه الترمذي وقال: حسن صحيح]
الخاتمة: دعوة لإحياء الأصالة وبناء المستقبل
إن الإرث الأخلاقي العظيم الذي تركه لنا سلفنا من التجار ليس مجرد صفحات من الماضي، بل هو هوية ورسالة.
فلنستلهم هذا النموذج النبيل، ونعمل معاً على:
إحياء هذه القيم في حياتنا التجارية.
إعادة الثقة إلى الأسواق.
بناء جسور من التعاون والتسامح بين التاجر والمستهلك.
فلنُجدد نيتنا، ولنُصلح تجارتنا، ولنجعلها منابر للصدق والبركة.
كما قال تعالى:
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}
[البقرة: 143]
دعاء ختامي
اللهم ردّنا إلى الحق ردًّا جميلاً،
وجمّلنا بأحسن الأخلاق،
ووفق تجارنا ليكونوا خير سفراء لدينهم وأمتهم
في كل مكان وزمان. آمين.