قصة النهوض الجزائري… ماذا لو لم تكن هناك جمعية العلماء؟
د. بن زموري محمد / في بداية القرن العشرين، كانت الجزائر ترزح تحت استعمار فرنسي متوحش، لم يكتف باحتلال الأرض، بل سعى إلى اجتثاث الإنسان من جذوره: دينه، لغته، وتاريخه. مشروع استعماري أراد تحويل الجزائر إلى مقاطعة فرنسية، ليس فقط جغرافياً، بل ثقافياً ووجدانياً. وفي خضمّ هذا السواد، وُلدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لا لتكون …

د. بن زموري محمد /
في بداية القرن العشرين، كانت الجزائر ترزح تحت استعمار فرنسي متوحش، لم يكتف باحتلال الأرض، بل سعى إلى اجتثاث الإنسان من جذوره: دينه، لغته، وتاريخه. مشروع استعماري أراد تحويل الجزائر إلى مقاطعة فرنسية، ليس فقط جغرافياً، بل ثقافياً ووجدانياً. وفي خضمّ هذا السواد، وُلدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لا لتكون مجرد تنظيم ديني أو ثقافي، بل لتصبح روح أمة تنهض من تحت الركام. لكن، ماذا لو لم تكن هناك جمعية العلماء؟ كيف كان سيكون وجه الجزائر؟ وكيف كان سيكتب تاريخها؟
لو غابت الجمعية، لربما نجحت فرنسا في تنفيذ أقسى مخططاتها، كما جاء على لسان أحد كبار المسؤولين الفرنسيين خلال الاحتفالات الرسمية بالذكرى المئوية للاستعمار سنة 1930 حيث صرّح متفاخرًا: «لقد أتممنا مهمتنا، ولم تعد هناك أمة جزائرية.» كان ذلك بعد مئة عام من الهدم الممنهج : أكثر من 900 مسجد وزاوية دُمّرت، التعليم العربي أُجهض، الأوقاف صودرت، وتاريخ البلاد أُعيدت كتابته بأقلام المحتل.
لكن صوتًا خرج من أعماق الجرح، يقول بثقة لا تهتز: «الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا»، فكان ذلك صوت عبد الحميد بن باديس، مؤسس الجمعية، الذي لم يحمل بندقية، بل حمل قلماً، وقال: «لو قلت تموت الجزائر، لقلت فليحيا الاستعمار. ولكنني أقول: تحيا الجزائر لأنها لم تمت ولن تموت.»
لم تكن هذه الشعارات فارغة، بل تحولت إلى مشروع حضاري واقعي. أنشأت الجمعية أكثر من 150 مدرسة حرة في المدن والقرى، حيث تعلّم فيها عشرات الآلاف من الأطفال، بعيدًا عن المدارس الفرنسية التي كانت تزرع فيهم العبودية الفكرية. وافتتحت شبكة من الكتاتيب والمكاتب التعليمية، وأطلقت برنامجًا تعليمياً خاصًا يدمج بين علوم الدين واللغة العربية والمنطق والرياضيات، مما أعاد للطفل الجزائري ثقته بنفسه، وللأسرة الجزائرية هويتها الضائعة.
بل إن الجمعية أدركت أن النهضة لا تكتمل إلا بإشراك المرأة والشباب، فأسست نواديَ ثقافية ورياضية، وجمعيات نسوية لتعليم البنات، وربطت الأجيال كلها بخطها الإصلاحي. لم يكن ذلك عملاً عشوائيًا، بل مشروعًا وطنيًا جامعًا، يسبق الثورة السياسية بثورة فكرية، لأن الجمعية كانت تؤمن أن الثورات لا تصنعها البنادق وحدها، بل تصنعها العقول التي تعرف لماذا تثور، وماذا تريد بعد النصر.
ولو لم تكن هذه الجهود، لربما نشأ الشعب الجزائري في غربة عن ذاته، ولكانت الثورة المسلحة عام 1954 بلا قاعدة فكرية، بلا وعي جماعي، بلا روح جامعة. لقد عانت بعض الثورات في العالم من غياب المشروع الوطني، فانتهت إلى صراعات داخلية أو فوضى. لكن جمعية العلماء وفّرت القاعدة الفكرية التي سبقت الفعل الثوري، وقدّمت نموذجًا حيًا لما ينبغي أن تكون عليه الأمة عندما تثور: ثورة تملك وجهة، وقيمًا، وهوية
يقول المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجيرون «الجمعية كانت أشدّ ما واجهته فرنسا من مقاومة فكرية، لأنها ضربت مشروعها في العمق.» ويضيف فانسان منصور مونتاي : «كان بن باديس أذكى من أن يدخل في صدام مباشر مع فرنسا، فذهب يبني الإنسان، الإنسان الذي سيقلب الطاولة يوماً ما.»
وقال البشير الإبراهيمي: «نحن نُعلّم لنحرر، ونُصلح لننهض، ونكتب لنوقظ النائمين.»، وعلق مالك بن نبي قائلاً: «جمعية العلماء لم تكن جمعية أفراد، بل كانت فكرة تتنفس، عقلًا يسري في الأمة.»، وقال الغزالي: «لو كانت في كل بلد جمعية مثل جمعية العلماء، لما تأخر المسلمون قرنًا.»
إن جمعية العلماء ليست مجرد ذكرى نزيّن بها كتب التاريخ، بل هي نموذج عملي لصناعة الوعي قبل النصر، وتكوين الشعب قبل الدولة، وبناء المشروع الوطني قبل التغيير السياسي. لقد أثبتت أن مقاومة الاستعمار تبدأ من تحرير العقل، وأن الشعوب التي تنهض على قاعدة فكرية صلبة، لا تسقط، حتى وإن انكسرت مؤقتًا. إنها ليست مجرد جمعية… إنها قصة نهوض وطن.